أضافه crinadmin في
محمد يختزل الخبرة الفلسطينية في قلبه الصغير في الحصار حُرم اللبن، فبكى جوعاً.. وبعد أن شبع من أمه، قُُصف بالطائرات الإسرائيلية بقلم: راوية حمام - أخصائية صحة نفسية مجتمعية
زار فريق أخصائيي برنامج غزة للصحة النفسية منزل الطفل محمد لتقديم واجب العزاء والمساندة النفسية لوالدي الطفل... كانت الأم إيمان، 12 عاماً، تجلس وتحيط بها حماتها وعمة زوجها وسط ركام البيت المدمر، وأمام غرفتها التى لم تدخلها منذ حدوث قصف مبنى الداخلية في مساء يوم الأربعاء السابع والعشرين من شباط/ فبراير الماضي، في الساعة الحادية عشر إلا ربع، وصفت ما حدث بصوت مخنوق وعين دامعة وأيدي مرتجفة قائلة: "أنا غير مصدقة أن محمد استشهد.. لا يزال صوته في أُذني.. أستيقظ بالليل على بكائه.. أتخيله أمامي بكل لحظة". ولدتُّ محمد في الخامس والعشرين من آب/ أغسطس الماضي، كانت الفرحة بالعائلة كلها لا تقدر بثمن، حيث جاء محمد بعد خمسة أعوام، كانت كل حركاته وهمساته مرصودة، بدأ محمد يسبح على بطنه، ونساعده بالجلوس، بدأ يعرف الأكل ويقول هم هم، بدأ ينطق اسم ماما، خبأت حاجيات كثيرة لمحمد من الآن، جمعت له أقلام حتى يكتب فيها عندما يدخل المدرسة، جمعت له ألعاب كثيرة، منذ أيام أحضرت له كرتونة بسكويت، لم يأكل منها سوى قطعة واحدة، لا أنسى قبل شهرين عندما منع الاحتلال دخول العديد من الأشياء إلى غزة ومن أهمها اللبن وكنت قد عودته على اللبن، فكان يبكي كل يوم جوعاً لأن رضاعتى له لا تكفيه فأنا لا أنسى تلك الأيام أبداً. كنا نخاف على محمد كثيراً، نحن أحد عشر فرداً نعيش في البيت، فكان لا يتُرك لوحده على الاطلاق حتى لو ذهبت الى الحمام لدقائق ، يحمله جده أو عمته أو عمه ..........ولا ينام إلا في حضنى ليلاً وبجانبى على السرير. استيقظ محمد في تلك الليلة المشئومة باكياً، فبدأت بإرضاعه حتى شبع ونام وهو يرضع، ومازال محمد على ذراعي، حتى أردت وضعه بجانبي، ففجأة حدث زلزال هز المكان بأكمله، ثلاثة صواريخ متتالية أظلمت المكان بأسره، لم أستطع رؤية ابنى محمد، ولا حتى زوجى الذي كان يقرأ لنا كتاباً في الغرفة، استطاع زوجي الاستدلال على مكان محمد من صراخه، استطاع أن يرفعه من تحت الركام من رجليه، لكن كان صوته مخنوقاً،لم نستطع رؤية جسمه أو وجهه لأن المكان كان معتماً والحجارة والغبار تتساقط في كل مكان، اندفع أهل البيت إلى الغرفة كانوا يعتقدون أننا نحن الثلاثة قد استشهدنا، وتلقف سلفي محمد وأسرع به إلى المستشفى، كان قلبي مقبوضاً، شعرت أننى لن أراه حياً بعد هذه اللحظة. ورغم أنه توفيَّ في المستشفى إلا أنهم طمأنوني بأنه بصحة جيدة، ولن يحتاج المتابعة في المستشفى، ولكن سمعت بعد لحظات من صوت المذياع بأن الرضيع محمد استشهد هذه الليلة، وقعت حينها على الأرض فاقدة للوعي، وحين أفقت وجدت نفسي في المستشفى تحت تأثير إبر مهدئة. في الأيام الثلاثة الأولى لم أنم، كما أنني حتى الآن لا استطيع النوم، إذا أغمضت عيني من شدة التعب، استيقظ على صوت محمد في أذنى، محمد أصبح يعرفنى ويضحك عندما يرانى، أنا أحسب كل يوم يكبر به محمد، وفي يوم 25 من كل شهر أحسب أنه كبر شهراً إضافياً. ليلة استشهاده ذهبنا لكى نأخد له صور في الأستوديو، وقبل أن تُكمل إيمان حديثها جرت مسرعة لتحضر لنا صور محمد، هذه الصورة أُخذت له وهو في الأستوديو، وهذه صورته وهو بالمستشفى، مكتوب على جبينه بالدم اسم محمد، انظروا إلى صورته وهو ينزل إلى القبر، إنه يبتسم.. كم هو جميل.. باسم ضاحك الوجه، محمد يُذكرني بأخي الشهيد أحمد، الذي استشهد وهو في السادسة عشر من عمره عام 4002 أثناء الاجتياح الاسرائيلي لمخيم جباليا، حيث كنت أعيش مع عائلتى هناك، أخي أحمد لبس أجمل ما عنده وذهب دون علم أهلى لمشاهدة جثث الشهداء في ثلاجات مستشفى كمال عدوان، ولكنه وُضع هو في الثلاجات في نفس ليلة استشهاده وقبل معرفة أمى بذلك أمي دخلت المستشفى للولادة في نفس الليلة، ولكنها رغم ألام الولادة لم تسأل على أحد إلا على أحمد، ولم تعرف بخبر استشهاده إلا من التلفزيون كما حدث معي أنا بالضبط، حيث سمعت خبر استشهاد ابنى من الراديو. تدخلت حماة إيمان بالحديث وتكون خالتها بنفس الوقت، قالت إننا في معاناة منذ هُجّرنا من بلادنا في العام 1948، أذكر جدة إيمان كيف عانت من ألام المخاض في أيام الهجرة، فولدت في الطريق وصوت الرشاشات والدبابات الاسرائيلية تضرب في كل مكان، وأذكرها كيف كانت تمشي وهى تنزف الدماء، أنا أيضا تزوجت وبعد أسبوع من زواجى تم حبس زوجى من قبل الاحتلال وهو جد محمد لمدة خمسة أعوام، ثم خرج من السجن وأعيد حبسه مرات عديدة. ومنذ زواجي وأنا أسكن في هذا البيت مع زوجى وأولادى وزوجات أبنائي، وعلى الرغم من كل المصاعب التي عشناها .. فإن هذا البيت يحمل ذكريات حلوة عشناها فيه، كل تلك الذكريات دُمرت وتهدمت مع تهدم البيت فوق رؤوسنا. وتُكمل الحماة ...لي سِلف عاش في لبنان وعاصر كل الحروب هناك، وهو لا يعرف ابنى ناصر والد الطفل محمد لأنه لا يملك هوية، فلا يستطيع الحضور إلى غزة، ولكن ولأول مرة شاهد ابني وهو يحمل طفله محمد شهيداً بين ذراعيه على شاشات التلفزيون. فهو تعرف عليه من خلال الاسم فقط، فكانت صدمته شديدة، ولكن هذا حالنا كشعب فلسطيني نعيش تحت المعاناة والقهر والحصار والشتات والاحتلال، فإلى متى هذا الظلم سيستمر؟؟ وإلى متى ستستمر المعاناة ؟!!!. رجعت جدة محمد تقول، وما يزيد القهر في النفوس، هو ظلم الفلسطيني للفلسطيني، أتعرفون أن ابني ناصر "والد محمد" لم يتلقى راتبه منذ ثمانية أشهر، كان يعمل في الشرطة قبل أحداث يونيو 2007، ولم يذهب لعمله منذ ذلك الوقت، إلا أن راتبه قُطع، وقبل استشهاد محمد، استلم ناصر راتبه لأول مرة تدخلت أم الطفل "محمد" باكية، استغفر الله العظيم، هل استشهاد محمد ابنى مقابل الراتب الذي رجع مرة أخري؟!! يارب أستغفرك!!. وأثناء وجودنا في المكان، تدفق إلى البيت العديد من الأقارب والجيران، وكان من بينهم فتاة في السابعة عشر من عمرها، بدأت تتكلم والخوف والارهاق مرسومان على وجهها، الآن استطعنا الخروج من البيت، كان جنود الاحتلال يحاصرون منزلنا، أجبرونا على التجمع في غرفة واحدة، وحرمنا خلال اليومين السابقين من الخروج حتى إلى الحمام أو الحصول على الأكل أو الشراب، وقبل أيام استشهدت جارتنا الطفلة جاكلين ثلاثة عشرة عاماً وأخيها اثني عشر عاماً وهما داخل البيت، هذه هى حياتنا.. خوف ورعب وعدم القدرة على النوم. هل تعرفون أن جاكلين وأخيها استشهدا ولم يستطع والدهما حضور جنازتهما، لأنه متواجد في الضفة الغربية، ومن قبل ذلك لم يُسمح لعائلته من قبل الاحتلال اللحاق بوالدهم بالضفة الغربية. لكن رغم كل ذلك، نمتلك عزيمة وإرادة وإيمان بالله العظيم، أنه لن يخذلنا وسيزول الاحتلال ولو بعد حين، وسنحيا حياة عزيزة بإذن الله. ومن خلال الزيارات والمتابعة لبيت الطفل "محمد" ومقابلة واليه، اتضح أن القوة الإيمنية التي تمتلكها والدة محمد تخفف عنها حدة الألم لفراق طفلها، فهي تصلي وترجو الله دوما أن يصبرها وأن ينزل السكينة على قلبها، لتنال الأجر على صبرها ولديها ثقة بأن الله سيعوضها بأبناء سيكونوا أخوة ل "محمد"، إضافة إلى أن إيمان تلقى دعم متواصل من زوجها وعائلتها.