EDUCATION: Quality Standards and Higher Education in Jordan (Arabic)


الأردن: ضبط الجودة والتعليم العالي

د. يوسف ربايعة (أكاديمي أردني- جامعة فلادلفيا)

 

تزايد الاهتمام في العقدين الأخيرين من القرن العشرين بجودة التعليم، ومن المتوقع أن يزداد هذا الاهتمام في المستقبل نظرا للشكوى العالمية من انخفاض مستوى الجودة في التعليم، وتشير تقارير اليونسكو( 2002 ) إلى أن الدول المتقدمة أكثر شكوى من الدول النامية، وانخفاض مستوى الجودة يتضح في انخفاض مستوى المنهج التعليمي وانخفاض الاتصال الجيد بين المؤسسات التعليمية والمجتمع، وقد جاءت معايير ضبط الجودة استجابة لاختلالات كبيرة في العملية التعليمية عانت منها الدول المتقدمة، إذ قامت هذه الدول بوضع ضوابط ومعايير تلزم بها المؤسسات التعليمية وتفرض تطبيقها من أجل الوصول إلى تعليم أقدر على مواجهة تحديات السوق، وإيجاد جيل متسلح بالمعرفة الكافية لإدخاله في الحياة فردا منتجا مشاركا في متطلبات المجتمع وحاجاته.

وتتنافس مؤسساتنا التعليمية هذه الأيام على تطبيق المعايير الدولية للتعليم، وتفرض وزارة التعليم العالي على الجامعات تطبيق هذه المعايير بوصفها العلاج الناجح لما يعانيه التعليم من مشاكل وسلبيات ومعيقات، ويعتقد أصحاب القرار أو بعضهم أن هذه المعايير هي أفضل ما وصل إليه العقل البشري في هذا المجال، ولكن المتتبع لمسيرة التعليم في الأردن لا يقر تماما بنجاعة تطبيق مثل هذه المقاييس، إذ يبدو أن العالم الغربي وصل إلى ما وصل إليه ضمن سيرورة موضوعية ألجأته إلى البحث عن قواعد تضبط العملية التعليمية بهدف تحويلها إلى صناعة تشابه الصناعات الأخرى، ونحن نعرف أن مصطلح ضبط الجودة استخدم أولاً في مجال الصناعات والتقنيات، وطموحا من العالم الغربي في الوصول إلى تعليم له معاييره الخاصة أسوة بباقي القطاعات فقد بادر علماء التربية إلى وضع معايير خاصة بهم.

وكما نستورد الصناعة فقد استوردنا معايير ضبط الجودة، ونجتهد في تطبيقها على مؤسساتنا ظنا منا أن ذلك هو البلسم الذي يداوي جراحاتنا، ولا نعرف أننا نغرس شجرة في بيئة لا تناسبها، ومهما كان جمال الشجرة وطيب ثمرها فإن ذلك لا يعني قدرتها على البقاء، ومعايير الجودة التي أنتجها الغرب ما هي الا نتاج طبيعي لما وصلوا إليه في التطور والتقدم، والعالم الغربي يسعى إلى نوع من التنميط والتصنيف لكل ما ينتجه وحتى التعليم، فقد استهلكوا كل النظريات التربوية السابقة ويبحثون الآن عن آليات جديدة تناسب واقعهم وقدراتهم، فهل وصلنا إلى ما وصلوا إليه حتى نطبق معاييرهم التي وضعوها.

أعتقد أننا بحاجة في تعليمنا إلى مرحلة ما قبل الصناعة، وأعني به التعليم القائم على الإبداع والتمييز والتفرد، التعليم الذي يوازي الفن والأدب وليس التعليم الذي يوازي الصناعة، والتعليم في العالم المتحضر( كما يقول علي عزت بيجوفتش) يعتمد على الفكر أكثر مما ينبغي والجانب الإنساني فيه أقل مما ينبغي، ونستطيع وصفه بأنه تعليم تقني أكثر مما يجب ويكاد يكون مضمحلاً في جانبه القيمي، وفي هذه الأيام من الممكن جدا أن تتخيل شابا قد مر بجميع مراحل التعليم من الابتدائي إلى الجامعة دون أن يكون قد تعلم أن يكون إنسانا خيّرا أو أمينا، فهو يتعلم الكتابة والحساب والطبيعة والسياسة والاجتماع، ويجمع كمّا هائلا من المعارف والحقائق وطرق التفكير والتحليل، ولكنه لم يستنر ثقافيا وروحيا، إننا لم نعد نسمع إلا قليلا عن برامج التاريخ والفنون الآداب والأخلاق.

ويرى باولو فرايري أن التعليم نوعان؛ التعليم البنكي والتعليم الحواري، والفرق بينهما كبير وعميق، فالتعليم البنكي يقوم على التلقين والتنميط والحفظ، ولا يفتح مجالا للعقل ومواجهة الواقع، وهو ما ينتج جيلا منسحبا من ذاته ومفصولا عنها أيضا، ولم تعد معه المؤسسات التعليمية قادرة على التأثير الفعال في عقول أبنائها، ولا على تشكيل فكر نقدي لديهم يحميهم من الفكر الواحد، كما يحميهم من الفكر المتسلط، ويحميهم من الخرافة كما يحميهم من الاستسلام لواقعهم، فهم متلقون لكل ما يسمعون دون نقد أو تمحيص، اما التعليم الحواري فإنه يستنهض كوامن النفس ويجعل الطالب قادرا على المشاركة فيما يتعلمه؛ أي أن المعلومة مشتركة بين الطالب والمدرس، والطالب منتج للمعرفة وليس مستهلكا لها وبذلك يتفتح عقله ومواهبه، ويمتلك الشجاعة على النقد والبحث والإبداع.

وإذا كان الغربيون قد أوجدوا معايير لضبط الجودة في التعليم فإنها عندنا زينة غير ضارة، إذ إن مفهومنا لتلك المعايير ما هو الا مزيد من تعبئة الأوراق والجداول الكثيرة، التي ربما لا يفهم كثير من معناها، ثم وبناء على هذه الجداول تُستخرج النتائج، ونشكر على ما قدمنا، وربما تظهر نتائجنا موازية أو تفوق أكفأ جامعات العالم ثم نتغنى بما وصلنا إليه، ولو صدقنا أنفسنا وذهبنا إلى الواقع والميدان لوجدنا أن ما كتبناه في الأوراق لا يتحدث عنا لا من قريب ولا من بعيد، وللأسف فإن ضبط الجودة عندنا يعني أشياء شكلية ثقيلة وغير مقنعة، حتى إن المسؤولين الذين يدعون إلى تطبيق هذه البرامج في ندواتهم ومحاضراتهم غير مؤمنين بها، وعندما توجه لهم السؤال وتطلب منهم أن يجيبوا بصدق بعيداً عن الكاميرات فإنهم يبدون عدم قناعتهم، ولكنهم يقولون: هذه تعليمات ولا نستطيع مخالفتها، وهنا وجه الغرابة والدهشة لأننا لا نعرف من الذي يفرض التعليمات؟ ولماذا تفرض؟ ألسنا قادرين على تشخيص دائنا ومعرفة دوائنا؟ وأنا واثق أن في جامعاتنا من الكوادر والكفاءات ما يغني عن كل قادم، وأن عندنا من الخبرة ما يسد حاجتنا ويزيد، ولكن ما ينقصنا الشجاعة في قول الحقيقة، بعيداً عن الخداع والزيف، وتنقصنا الثقة بالنفس(فأهل مكة أدرى بشعابها) والقادم من أميركا وأوروبا لا يعرف ضعفنا أكثر منا ولا يعرف قدراتنا أكثر منا ولا يعرف عاداتنا وتقاليدنا وقيمنا ومرجعياتنا وتراثنا، وأنا أعتقد أن الذين يأتون لمراقبة معايير الجودة من الغرب لا يريدون منا أن نوافقهم في كل شيء، لأنهم يعرفون اختلاف المكان والزمان والمجتمع، ولكننا نحن الذين لا نملك ادنى شجاعة حتى لإبداء رأينا! 

Owner: Dr. Youssef Roba'iapdf: http://www.alghad.jo/?news=329967

Organisation: 

الدول

Please note that these reports are hosted by CRIN as a resource for Child Rights campaigners, researchers and other interested parties. Unless otherwise stated, they are not the work of CRIN and their inclusion in our database does not necessarily signify endorsement or agreement with their content by CRIN.